فوردو الغرفة المظلمة التي لا تنام

تُعد منشأة “فوردو” من أبرز رموز القوة الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية ومن أكثر مواقع التشيّع السياسي والعقائدي حساسية في العالم ' تقع هذه المنشأة جنوب العاصمة طهران بالقرب من مدينة قم المقدسة على بعد نحو 32 كيلومترًا ، وقد شُيّدت في عمق جبل صخري في محاولة لتحصينها من أي ضربة جوية ، في واحدة من أكثر التصميمات الدفاعية تعقيدًا في البنية التحتية النووية عالميًا .

منشأة فوردو ليست مجرد مرفق لتخصيب اليورانيوم بل تحوّلت خلال السنوات الماضية إلى عقدة عصية في فم الأمن القومي للكيان الصهيوني وشوكة دائمة في خاصرة منظومة الهيمنة الغربية إذ وُصفت في الأوساط الاستخباراتية الغربية بأنها الكابوس المستتر في أعماق الجبال .

أُزيح الستار عن فوردو عام 2009 بعد أن كشفت تقارير استخباراتية أمريكية وغربية عن وجودها ما دفع طهران للاعتراف بها رسميًا في إطار تكتيك احتواء الصدمة وكانت حتى ذلك الحين منشأة سرية تمامًا الاكتشاف أثار قلقًا دوليًا عارمًا ، إذ اعتُبر دليلًا إضافيًا على أن إيران تُخفي جزءًا من برنامجها النووي عن أعين الرقابة الدولية وعلى الرغم من هذه الاتهامات حافظت طهران على سردية مفادها أن أنشطتها لأغراض سلمية لكن فوردو كانت وما زالت حالة مختلفة تمامًا.

ففي هذه المنشأة، وصل تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60% متجاوزًا بكثير الحد المسموح به في اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) الموقع عام 2015 والذي حدده عند 3.67%. هذا الرقم وإن بدا تقنيًا إلا أنه سياسي بامتياز ويمثّل بلغة غير قابلة للتأويل رسالة مفتوحة نحن قادرون، وعيوننا لا تغفو .

تقع فوردو على عمق يتراوح بين 80 و100 متر تحت سطح الأرض محاطة بطبقات من الخرسانة المسلحة والصخور الصلبة مما يجعلها شبه مناعة ضد أي ضربة جوية تقليدية هذا التصميم الدفاعي الفريد أكسبها سمعة بأنها من بين أكثر المنشآت النووية تحصينًا على الإطلاق وهو ما أكدته الوثائق التي كشف عنها الموساد الإسرائيلي بعد سرقة أرشيف البرنامج النووي الإيراني عام 2018 إلا أن فوردو لم تُصمم فقط لتكون محمية بل لتكون أداة ضغط ومساومة وسيفًا مشرعًا فوق طاولة التفاوض.

بموجب اتفاق 2015 وافقت إيران على تحويل فوردو إلى مركز لأبحاث الفيزياء النووية مع وقف تخصيب اليورانيوم فيها لكن بعد انسحاب الولايات المتحدة الأحادي من الاتفاق عام 2018، استأنفت إيران أنشطة التخصيب في المنشأة ورفعت النسب تدريجيًا، بما يتناسب مع منسوب التصعيد الأمريكي والغربي هذا التحول لم يكن ارتجاليًا بل مدروسًا حيث تستخدم طهران فوردو كورقة ضغط تفاوضية تخفّض التخصيب عندما تكون في حالة تقارب دبلوماسي وترفعه عندما تعود أجواء التصعيد.

مؤخرًا نفّذ الكيان الإسرائيلي ضربة استهدفت منشآت سطحية قرب فوردو في محاولة لتوجيه رسالة سياسية وربما اختبار قدرة الردع الإيرانية إلا أن الهجوم بحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يُحقق أي تأثير يُذكر أجهزة الطرد المركزي لا تزال تعمل بكفاءة ومعدلات التخصيب لم تتراجع الرد الإيراني لم يتأخر وجاء مواربًا حينًا وصريحًا حينًا آخر حيث جرى التلميح بوضوح إلى أنّ “العين لا تزال على ديمونا” وأن الرد إن لم يكن نوويًا، فسيكون على الأقل موجعًا في عمق الكيان المحتل .

فوردو اليوم ليست مجرد موقع نووي بل رمز لنمط إيراني جديد من المقاومة الاستراتيجية منشأة تختزل فلسفة الدولة العميقة في طهران الصبر، الحفر في الصخر، والعمل تحت الضغط والضوء الأحمر معًا تحصينها الجغرافي والتكنولوجي يجعل من الخيار العسكري ضدها مغامرة غير مضمونة العواقب لا لإسرائيل وحدها بل لحلفائها أيضًا.

وفي الوقت ذاته فإن استمرار إيران في رفع نسب التخصيب يعمّق المخاوف الدولية من انزلاق المنطقة نحو سباق تسلّح نووي أو حتى مواجهة مباشرة غير قابلة للاحتواء لاسيما في ظل تقاطع ملفات أخرى كغزة، ولبنان، واليمن .

إن منشأة فوردو تُجسّد التحوّل في العقل الإيراني من الدفاع إلى الردع ومن التفاوض تحت الضغط إلى التفاوض من موقع قوة إنها قلب الجدل النووي وموضع الاشتباك المستمر بين إيران ومحور الاستكبار بين الشرق الذي يعيد بناء قواعده والغرب الذي يعيد حساباته .

ليس سرًا أن إيران لم تصنع القنبلة، لكنها نجحت حتى الآن في صناعة المعادلة

عبدالله عباس
١٥-حزيران-٢٠٢٥