نص ممزوج بالدموع || د. عباس البياتي
في رثاء الرعيل الاول من دعاة المنطقة الشمالية
(استشهدوا في مثل هذا اليوم 30 – 12- 1980)
في ضاحية تحاذي مدينة كركوك تشمخ البيوت الطينية برجالها الأشداء في
إيمانهم، وتسمو على العمارات العالية بذوبانها على طريق الحق، وتعبق
بعطر الايمان الممزوج بعبق التراب الزكي، وتزدحم ازقاتها القليلة
بالحسينيات والمساجد والتكايا التي ترتفع منها بصوت جهوري.. اشهد ان
عليا ولي الله، وفي شقوق جدران تلك البيوت كانت تخبأ نشرات الدعوة
الإسلامية، وفي بساتينها الوارفة في أطرافها تنعقد الحلقات الدعوية
على طريقة الفلاسفة المشائيين، وكانوا بعد قراءة الفاتحة على أرواح
شهداء الدعوة وتحديدا على روح القائد ابي عصام وقبضة الهدى- ولم يكن
غيرهما شهداء في وقتها- يختمون حلقتهم واجتماعهم مع ختام يومهم وافول
شمسه، وظهور خطوط الليل الاولى في السماء، ينحدرون لواذا بدشاديشهم
البيضاء الناصعة كقلوبهم، فيسارعون الخطى الى جامع الثقلين لاداء صلاة
الجماعة خلف شيخهم الوقور حسين البشيري، وهو يبتسم في وجهوهم، وبينه
وبينهم كيمياء خاص للتفاعل القلبي، والحديث بلغة العيون والقلوب وليس
بالشفاه والكلمات، لانه منهم، وهم ربائبه، ويعرف من اين جاؤوا، وأين
كانوا، وماذا كانوا يفعلون.
انهم من تسن او تسعين التي شعت خيوط النور الدعوي عليها
في منتصف الستينات من القرن الماضي، وهزت أوتار مشاعر الشباب ووعيهم
قبل قلوبهم واثارت اهتمامهم على حاضر ومستقبل عقيدتهم وامتهم، وهكذا
وجد ذلك النور ان أبواب تلك البيوت ونوافذها مشرعة امامه فدخل مرحبا
به ليضيء العقول بالوعي والقلوب بالمشاعر الصادقة، فقد وضعت الدعوة في
كل بيت بذرة خير وعطاء ووعي، فتشكلت الحلقات الاولى ثم توسعت واستقطبت
جيلا من الشباب والمثقفين، ومنها انتقلت الى المنطقة الشمالية حتى غدت
تسعين بؤرة اشعاع على حواليها وتعانق سناها لهيب النار المتدفقة من
ابار النفط في بابا كركر.
تسعين ليست مدينة من طين وحجارة او بيوت مصفوفة وجامدة
وشوارع بليدة، وإنما هي مدينة تصدع بذكر الله جهارا نهارا، وتطرب على
أشعار الولاء للعترة الطاهرة، فكانت منارة عالية للهداية والتقى
والعمل الصالح، وقلعة التشيع المنيعة في تلك الجزيرة المحيطة بها.
فكانت “تسعين" نقطة الشروع وخط البداية، وسجلا مرصعا بالفخر
والاباء والمجد وسنام الدعوة في شمال العراق، فهي مدرسة الوعي الأصيل
ومدينة الثقافة والشعر والأدب وميدان الجهاد والخط الاول في جبهة
المبارزة ضد سلطة البعث.
إنها مدينة النور وصدى صوت الحسين في كربلاء، وهي التي
كانت تجتذب في موسم عاشوراء الشيعة من مختلف مناطق العراق اليها ممن
دفعتهم لقمة العيش الى كركوك او كانوا ضباطا وجنودا في الثكنات ومطار
كركوك، فيجد الجندي والمعلم والموظف والعامل والمستطرق القادم من مدن
الجنوب ان هناك نغمة ترتفع من بقعة جغرافية فتلامس شغاف قلوبهم وان
كانوا لا يعرفون ماذا يقال، ولكن يكفي انهم يرددون اسم علي والحسين
بلغتهم التركمانية، فهكذا يجد أولئك الغرباء انفسهم جزء من اهالي
تسعين على الرغم من اختلاف اللغات والعادات، ويذرفون دموعا سخية على
أصوات ملا صمد وهو يرتل آيات من مصائب عاشوراء بصوته الشجي،
ويشاركونهم في المواكب الحسينية وان كانوا لا يعرفون ماذا يقول الخطيب
والرادود والشاعر بلغتهم التركمانية.
فتسعين مدينة النذور والتكايا ومقصد الطالبين لحاجاتهم،
إذ التركمان من المذاهب الاخرى يتدفقون اليها في اليوم العاشر من محرم
الحرام قاصدين حسينياتها متبركين بطعام الحسين التي كانت تطبخ في
مواسم عاشوراء، طالبين من الإمام الحسين الشفاعة عند الله والاستجابة
لنذورهم، ثم يرجعون في العام القادم ومعهم وفاء نذورهم بعد تحقق
مرادهم واستجابة دعواتهم.
تسعين هوية وتاريخ، وهي الشمس التي أضاءت الطريق
للسائرين نحو الله والجهاد في سبيله يوم ادلهمت سماء العراق وكركوك
بغيوم التيارات الملحدة والعنصرية والعلمانية والوجودية.
فالبداية كانت من تسعين حين تقدمت وبادرت وفتحت افاق العمل الدعوي
ورفعت الراية وشقت السبيل للأجيال ان تسير بثقة واطمئنان.. فتسعين لم
تكن تردد شعار (ياليتنا كنا معكم) لقلقة لسان بل ان شبانها برزوا مع
الصدر الشهيد واتبعوه قافلة إثر اخرى وهي تقول: يا ربي تقبل منا هذه
القرابين لوجهك الكريم وعلى خطاك ياحسين.
ما كان أوهن بيوت عنكبوت البعث وهو قلق يخشى من تلك البيوت الطينية
ومآذنها وجلساتها الحوارية، ويعدها خطرا على نظامه الدكتاتوري.
تسعين.. قاسمت الوسط والجنوب زنزانات أبو غريب وأقفاص
القفات المغلقة والسراديب المظلمة لمديرية الامن العامة والشعبة
الخامسة وقاطع الاعدامات، ووقف شبابها في صف المتقدمين الى حبال
المشانق قبل وبعد كل داعية من الوسط والجنوب، وهم يهتفون بغلتهم
التركمانية.. عاش الإسلام والدعوة، والموت للبعث وصدام.
تسعين.. جرح نازف من كل حرف من اسمها، ومما يدمي القلب
ويذيب الفؤاد ان المجرم مسلم الجبوري عندما كان يحكم على أبنائها
التركمان بالإعدام لم يفهم عدد من شبابها وشيابها منطوق الحكم،
فيلتفون يسارا ويمينا ليقرأوا في الوجوه بماذا تم الحكم
عليهم.
ومن " تسعين " بدأت اول الاعدامات في الشمال ووسط
التركمان وفي الدعوة في العراق بنحو عام، فكان الشيخ عباس فاضل اول
داعية بعد قبضة الهدى واول تركماني استشهد بعد انتفاضة رجب.
في يوم 30/ 12 نستذكر الشهداء السبعة الرعيل الأول من
دعاة تسعين في كركوك، الذين نفذ فيهم البعث المجرم حكم الإعدام بسبب
انتمائهم للدعوة المباركة، وهم كل من: (الشهيد جمعة كاظم سلمان -
الشهيد كاظم عباس يوسف - الشهيد رضا رشيد محمد- الشهيد احمد
محمد ولي- الشهيد مصطفى كاظم احمد- الشهيد عزت ساقي محمد-
والشهيد عباس احمد إبراهيم)، ثم توالت قوافل الشهداء في تسعين تترى
حتى تجاوز عددهم مائتي شهيد.
في فجر هذا اليوم 30 كانون الأول تم اعدام الشهداء
السبعة وهم من شريحة المدرسين والمعلمين، وفي 30 كانون الأول من عام
2006 تم تنفيذ حكم الله والشعب بالطاغية صدام المقبور بالتوقيع الخالد
لرئيس الوزراء في وقته السيد نوري المالكي وهو ابن هذه المدرسة
الدعوية ثأرا لدماء كل شهداء العراق، انها ليست صدفة او اقترانا
زمانيا، وإنما هي سنن آلهية وقدر رباني ان تتزامن هذه التواريخ، لتخلد
الذين ارتقوا الى السماء بصلاحهم وايمانهم، وتنزل الذين ظلموا الى قعر
الهوان والخزي حتى يعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون في
الدنيا، والعاقبة للمتقين في الاخرة.