لو كان الشيعة والسنة واقعيين لما حدث الصراع الطائفي في العراق || علي المؤمن 08-09-2024
لو كان الشيعة والسنة واقعيين لما حدث الصراع الطائفي في العراق ||
علي المؤمن
ما حدث في العراق بعد العام 2003 بين السنة
والشيعة، هو صراع طائفي شامل بكل المعايير، وهو يشبه الصراع الطائفي
في ايرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت، أي أنه ليس صراعاً دينياً
مذهبياً غالباً، بل صراع على المصالح والمكاسب السياسية والاقتصادية
والاجتماعية بين أبناء الطائفتين السنية والشيعية.
لقد حدث هذا الصراع على خلفيات واقعية تراكمية، تتمثل في
البنية الطائفية العنصرية الموروثة للدولة العراقية ونظامها السياسي
ونخبتها الحاكمة؛ إذ ظلت هوية الدولة العراقية قرون طويلة هوية سنية،
ثم سنية عربية، تقوم على استرتيجيا ثابتة تتمثل في إقصاء الشيعة
وتهميشهم وازدرائهم مذهبياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً ومعيشياً،
رغم أن نسبة العرب السنة تبلغ 16% من عدد سكان العراق، ونسبة الشيعة
65%، وهي نتاج طبيعي للسلوك الطائفي الموروث للاحتلال العثماني في
العراق حتى العام 1917، والسلوك الاستعماري الانتهازي للاحتلال
البريطاني، منذ العام 1917 وحتى العام 1958، ثم السلوك الطائفي
العنصري للدولة العراقية، منذ تأسيسها في العام 1921 وحتى سقوطها في
العام 2003.
هذه البنية الطائفية العنصرية للدولة العراقية، كانت
تضرب حقائق الواقع العراقي عرض الجدار، بعد أن اختفضت بالموروث
العثماني المذهبي، وكرست المذهب السني الحنفي مذهباً حاكماً في الدولة
العراقية، ومن النظام السياسي نظاماً سنياً عربياً، طائفياً عنصرياً،
واشترطت ضمناً أن يكون حاكم البلاد ورئيس الدولة (ملكاً أو رئيساً)
سنياُ عربياً، والأغلبية الساحقة من الوزراء ومسؤولي الدولة وقادة
القوات المسلحة، من السنة العرب.
وقد تفجر هذا البركان المرعب بعد سقوط النظام البعثي،
وخاصة بعد أن اندفع الشيعة على استحياء لتأسيس معادلة طائفية شبه
عادلة، بهدف إنصاف الشيعة نسبياً، سياسياً وتشريعياً وثقافياً
ومذهبياً. وأقول على استحياء وإنصافاً نسبياً، لأن النخب الشيعية،
الدينية والسياسية، كانت تقبل بمثالثة هوية الدولة ونظامها وحكمها، أي
أن يكون للشيعة الثلث، والسنة العرب الثلث، والسنة الكرد الثلث. ورغم
أن هذه المثالثة تستمر في هضم حقوق الشيعة وظلمهم، لأنها تمثل
المساواة بين المتباينين في العدد، ولا تعبِّر عن العدالة؛ فإن السنة
العرب، رفضوا أيّ تغيير في الهوية السنية العربية للدولة العراقية
ونظامها السياسي وطاقمها الحكومي، وأيّ إنصاف للشيعة في حقوقهم
المذهبية والطائفية، وعدّوا هذا التغيير تهميشاً للعرب السنة
واختطافاً للدولة العراقية وللوطن.
وبين رفض السنة القاطع، واندفاع الشيعة الخجول؛ نشأ
الصراع الطائفي السني - الشيعي في العراق، في أروقة الحكم أولاً، ثم
انتقل الى مفاصل الدولة الأخرى، ثم إلى المجتمع، وصولاً إلى السلاح
والعنف. وكان فيه الطرف السني العربي الذي ظل يستحوذ على 90% من
الدولة ومفاصلها الأساسية ونظامها السياسي حتى العام 2003؛ يقاتل من
أجل عدم تمدد الشيعة على هذه النسبة، ومنعهم من قضمها أي مساحة
منها.
وكانت الماكنة الدعائية والسياسية والمخابراتية للبلدان
العربية والمسلمة السنية، وخاصة الخليجية والتركية؛ تقوم بشحن سنّة
العراق عاطفياً، ودعمهم ودفعهم بقوة لمواجهة اندفاع الشيعة، وتتهم
شيعة العراق بأبشع ألوان التهم الطائفية والتكفيرية، ورافقتها غزوات
إرهابية مسلحة ممولة تمويلاً كبيراً، ويندر نظيرها على مستوى أساليب
العنف والقتل والتهجير ضد الشيعة.
وفي المقابل؛ ظل شيعة العراق مختلفون في أساليب مواجهة هذا
الحملات الطائفية المهولة؛ فمنهم من كان يبسِّط المشكلة الطائفية
التاريخية المعقدة ويستسهل تحليلها، وهو يلقي باللائمة على الاحتلال
الأمريكي، ويتهمه بأنه اختلق المشكلة الطائفية في العراق، وكان يرى أن
انتهاء المشكلة يكمن في طرد المحتل. ومنهم من كان يستسهل الحل، ويرى
ضرورة مداراة السنة عند انتزاع حقوق الشيعة، وأن يبقى السنة ممسكون
بأهم مفاصل الدولة، وأن تبقى ثقافة الدولة سنية، خاصة وأن شيعة العراق
يعيشون في بحر من الأكثرية السنية العربية، ومنهم من كان يفكر تفكيراً
انفعالياً، ويرى ضرورة الرد المسلح الشعبي والفصائلي على الإرهاب
الطائفي الذي يقوده بعض السنة، ومنهم من كان يفكر تفكيراً موضوعياً،
ويرى أن يتم التغيير وانتزاع الحقوق بشكل واقعي وصريح وتدريجي، دون
تردد أو خجل أو مواربة.
وقد كان من الممكن أن لا يحدث هذا الصراع الطائفي،
الشيعي- السني، بعد سقوط نظام البعث في العام 2003، لو كانت نخبة
الطائفة السنية العربية ونخبة الطائفة الشيعية، تتمتعان بالحس
الواقعي، وتمارسان الفعل الواقعي، وفق المصاديق التالية:
1- قبول السنة العرب بحقائق الواقع العراقي وجغرافيته
السكانية، بعيداً عن وهم المِلْكية التاريخية للدولة العراقية وحكمها،
وبعيداً عن استغفال الشيعة بشعارات الوطنية والقومية، وفي مقدمة تلك
الحقائق أن يذعنوا بأنهم أقلية مذهبية قومية، لا تتجاوز نسبتها 16%
فقط من سكان العراق، وأن استفراد نخبهم السياسية بالدولة وحكمها طيلة
قرون كان خطأً بالغاً، وأن ما تعرضت له الطائفة الشيعية من ظلم كبير
على يد الدولة العراقية السنية، كان خطأً أكبر، وأن الواجب الإنساني
الإسلامي والوطني يحتم أن يدعموا الشيعة في انتزاع استحقاقهم الطبيعي،
على كل المستويات، المذهبية والقانونية والسياسية والثقافية
والمعيشية.
2- وعي الشيعة بحقيقة التغيير، وأنهم أمام فرصة تاريخية،
قد لا تتكرر، وينبغي أن يأخذوا زمام المبادرة بقوة (يا يحيى خذ الكتاب
بقوة)، دون تردد وضعف، ودون الالتفات للائم ومخوّن وساذج وعابث، ودون
رفع شعارات رومانسية لا معنى واقعي لها. ويعني الأخذ بزمام المبادرة
أن يبدؤا بالتخطيط العلمي العميق لتحويل هوية الدولة العراقية
وثقافتها إلى هوية وثقافة شيعية عربية، على قاعدة انحياز الدولة
الطبيعي لهوية الأكثرية السكانية، وهم الشيعة العرب، الذين يشكلون 56%
من عدد سكان العراق، وكذا الحال بالنسبة للنظام السياسي للدولة، والذي
ينبغي أن يلتزم بمعايير حكم الأغلبية الشيعية ومنظومتها الشرعية
ونظامها الاجتماعي الديني. أما تنفيذ هذا المخطط؛ فكان ينبغي أن يتم
بأساليب منهجية واقعية، خلال مدة أقصاها خمس سنوات حداً أقصى، أي حتى
العام 2008.
3- تدوين دستور واقعي متوازن، يضمن تأسيس دولة المواطنة،
التي تحفظ حقوق الأغلبية السكانية المذهبية القومية، وحريات الأقليات
المذهبية والقومية وحقوقها في المشاركة السياسية والوصول إلى المناصب
والتقاضي وفق أحوالها الشخصية، وممارسة شعائرها وطقوسها الدينية
والمذهبية والقومية، ويفرز نظاماً سياسياً ديمقراطياً، وحكومة أغلبية
سياسية، بعيداً عن سياسة الترضيات القومية والطائفية.
لو كانت هذه العوامل الثلاثة قد تحققت بعد العام 2003؛
لما حدث أي صراع طائفي وقومي، ولتمّ إخماد أي تحرك إرهابي، ولرفضت
المناطق السنية احتضان بقايا البعث والتنظيمات الطائفية التكفيرية
الإرهابية، ولتم إسقاط ما بيد الأنظمة الطائفية من مؤامرات، ولخرج
الاحتلال باكراً، ولتأسست دولة وطنية حضارية متقدمة، تسد مسارب الفشل
والفساد.
وبالتالي؛ فطالما بقيت هذه العوامل الثلاثة غير متحققة
على أرض الواقع العراقي؛ فسيبقى الصراع الطائفي والصراع القومي
قائمين، وستبقى سياسات المحاصصة والترضيات، على حساب مصالح الوطن
والشعب، قائمة أيضاً، وتبقى معها أيضاً مسارب الفساد والفشل، ولن تنفع
معها كل الشعارات الرومانسية والمثالية الفاشلة التي ظل السطحيون
والمستفيدون والمنفعلون يصدعون رؤوس الشعب بها ويستغفلونه، للتغطية
على جذور المشكلة وأصول الحل.