الإمام الرضا (ع) استثمر ولايته لإصلاح الحكم والأمة // د. وليد الحلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام الرضا (ع) استثمر ولايته لإصلاح الحكم والأمة
المصلح الذي يملك الروح الإيجابية المنتجة هو الذي يثمِّن الفرص حين
تتاح أمامه، ولا يقف جهده عند مجرد اغتنام الفرص، ولا يتشاءم عندما
يحل الظلام والمحن أمامه، وإنما يستمر في البحث في الثغرات لاغتنام
استثمارها.
تاريخيا غيّر الحاكم العباسي المأمون أساليب منهج الخلفاء الأمويين
والعباسيين بالضغط والملاحقة والسجن والتعذيب والقتل لأهل بيت النبوة
وأعوانهم ومؤيديهم، وذلك الشروع بمنهج الاستيعاب والاستقطاب لأهل بيت
النبوة لتثبيت أركان حكمه. وخاصة أنه كان يمر بمرحلة عصيبة بعد قتله
لأخيه الأمين الذي تولى الخلافة العباسية قبله، وتولى المأمون الخلافة
بدلا منه، فاستدعى الإمام علي بن موسى الرضا (ع) من المدينة المنورة
إلى مشهد في خراسان في عام 200 هـ ليكون وليا للعهد بعده.
ومن جانبه رفض الإمام الرضا (ع) في بداية الأمر المشاركة في حكومة
المأمون، وبعد إلحاح المأمون مع التهديد للإمام، وإعطائه الوعود
الكبيرة لتحقيق ما يصبو لتحقيقه، وافق الإمام من منطلق استثمار الفرص
لتحقيق أهدافه في "رحم الله من أحيا أمرنا".
ولد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في المدينة المنورة في 11
ذي القعدة عام 148هـ. وقد خبر أساليب الخداع التي استخدمها الحكام
الأمويون والعباسيون، ومن آزرهم وسار معهم في تشويه فكر وعقيدة وأصول
الدين الإسلامي بسلوكهم النابع من استغلال الحكم للمنفعة الشخصية
والعائلية، وخاصة من خلال تصديه للإمامة لمدة (17) عاما في المدينة
المنورة من عام 183 (كان عمره 35 عاما آنذاك) إلى عام 200 هـ، بعد
استشهاد والده الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) على يد الحاكم هارون
العباسي في 25 رجب عام 183 هـ.
وقد خطط الإمام علي الرضا (ع) لاستثمار فرصة تكليفه بالولاية للقيام
بإصلاحات كبيرة، وحدد معالم هذه المرحلة بالمظاهر والممارسات
الآتية:
أولا: استثمار الظروف لإقامة الدين وإحياء السنّة وإصلاح الحكم:
تحرك الإمام على حكومة المأمون بدأً بوزرائها وقادة الجيش والقضاة
وخواص المأمون في خراسان والولايات الإسلامية لإصلاح ما قام به
الحاكمون في الحكم الأموي والعباسي.
ثانيا: إفشال خطط المأمون لاستغلال ولاية الإمام الرضا (ع) لإيقاف
الاحتجاجات ضد حكم المأمون في عدة بلدان: أراد المأمون أن يجعل الإمام
(ع) وسيلة لإضفاء الشرعية على حكمه، وإيقاف نشاط الحركات الآمرة
بالمعروف والناهية عن المنكر، فرفض الإمام (ع) التصدي لهم، وأفشل خطة
المأمون، قائلا (ع): ( فإنّي إنما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه،
ولا أنهى، ولا أعزل ولا أولي ولا أسير). ولم يتدخل الإمام بشكل مباشر
في تعيين مسؤولي سائر المناصب كالقضاة وأمراء الجيش والإدارة.
ثالثا: حرص الإمام على إصلاح الفكر الإسلامي والعقيدة في مناظراته مع
علماء التفسير، وأهل الفلسفة والكلام، ورد على الزنادقة والغلاة،
وكانت له ردود عديدة على المشبهة والمجبرة بالقدرية وتسمى المفوضة،
والغلاة والمجسمة وأصحاب التفسير بالرأي والقياس، كما أن له ردوداً
على الفرق غير الإسلامية كالزنادقة واليهود والنصارى وغيرهم، ووجه أهل
الفقه والتشريع وأصول التوحيد، وبالتالي أصبح محور التوجيه ومركز
الإشعاع والمنطلق في الدولة.
رابعا: تصدى الإمام إلى توعية الأمة بضرورة مجابهة التحديات
والإشكاليات والمؤامرات، عبر الصمود والشعور بالقوة الإيمانية التي
تثبت إمكانية إصلاح الناس والمجتمع وتجاوز العقبات والسلبيات والضعف
والخوف الذي ينتاب البعض، بعد التوكل على الله سبحانه، قال الإمام علي
(ع): "رحم الله امرأ اغتنم المهل وبادر العمل " معنى المهل: النظر
والتؤدة.
خامسا: تصحيح الأفكار السياسية الخاطئة: من المغالطات السائدة عند بعض
المسلمين هي عدم ارتباط الدين بالسياسة، وأنه لا يليق بالأئمة
والفقهاء أن يكونوا سياسيين، أو يتولوا المناصب السياسية، وأن الزهد
في الحكومة والخلافة هو مقياس التقييم، وقد حاول العباسيون تركيز هذا
المفهوم عند المسلمين، فأراد الإمام (ع) بقبوله بولاية العهد أن يصحح
هذه الأفكار السياسية الخاطئة، ويوضّح للمسلمين وجوب التصدي للحكم عند
توفر الظروف الملائمة.
سادسا: استثمار سلطة الإمام في تقوية نشاطات أصحابه ودعمهم لإصلاح
المجتمع. فطلب الإمام من أصحابه أن يستثمروا هذه الفرصة المتاحة لهم
للتواصل مع الناس، وأن يجوبوا البلدان من أجل تعريف المعركة بين
الصادقين في الإصلاح ومحاربة الفساد، والمدعين بمحاربة الفساد
والمستغلين لمصطلح الإصلاح زورا.
أما المأمون، فعندما لم يستطع أن يحقق أهدافه في احتواء الإمام،
وتسخير أتباع خط آل البيت لمصلحته، بل على العكس، وعندما ازداد نشاط
الإمام الرضا، وأصبح تأثيره كبيرا في المجتمع، خاف المأمون على حكمه
من السقوط وسيطرة الإمام الرضا (ع) عليه بشكل كامل وسقوط حكم
العباسيين، فقرر المأمون بدس السم للإمام الرضا، والذي أدى إلى
استشهاده (عليه السلام) في خراسان (مشهد) – إيران عام 203هـ بعد ثلاث
سنوات من توليه ولاية العهد المزعومة! كانت شهادته في آخر صفر عام
203هـ وعمره 55 عاما.
وهنا نشير الى أن الحكم العباسي، وقبله الحكم الأموي ورثا السمعة
السيئة والأداء الفاشل، حيث استغلا الدين الإسلامي الحنيف لتمرير
أجنداتهما الغارقة بالإثم والمعصية والفساد، بينما انتصر المنهج
الإسلامي لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذي كان مصداقا لما أوصى به
خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وآله) لإنقاذ الأمة من
الظلمات إلى النور، كذلك فإن الإمام الرضا (ع) انتصر على المأمون فيما
قدمه للأمة الإسلامية من علوم وفقه وحكمة في المنهج والأداء وما حققه
في إصلاح الحكم والأمة.
وليد
الحلي
29 صفر 1446-3أيلول2024