تظاهرات الخيال الجغرافي – الأيديولوجي || د. عمران كاظم الكركوشي
لماذا هذه التظاهرات في العراق عموما وفي شماله خاصة؟
يبحث الإنسان عن امتدادات دائمة يعيش فيها، فهو يبحث عن الامتداد
الفسيولوجي في بنيته الجسمية فيبحث عن مزايا الجسم الممتد المتكامل
والجميل، ويبحث عن الامتداد الاجتماعي، فيعمل على تكوين عائلة وقد
تكون ممتدة، ومنها ينطلق الى امتداداته العشائرية والقبلية والقومية،
ومن ثم ينقلب الى الركون الى الامتدادات الدينية والعقائدية التي
تمنحه الانتماءات الروحية والاستقرار النفسي وفهما بعلاقته مع
الكون.
وبعدها يتنفس الإنسان امتداد الأفكار والثقافة التي تشكل وعيه بالزمان
والمكان، والعلاقات بينه وبين أبناء جنسه، ومضمون تلك المفردات التي
يتفاعل بها مع بيئته فيبني جسورا ممتدة مع الثقافة المحلية والإقليمية
والعالمية لتزيده ثقة بالمشاركة الجزئية والكلية مع أقرانه في الكوكب
والجنس البشري. وغلبا ما يعقب بناء هذه الامتدادات مراحل من الاشباع،
وهذا الإشباع يمنح الانسان وجوده واستقراره، ولكنه أحيانا بل وغلبا ما
يريد الزيادة من هذه الإشباعات لأسباب ذاتية وموضوعية وبالتالي يطلب
المزيد من خارج بيئات الاشباع الحالية، وعندما يعجز الانسان عن
الاستمرار بحركته الممتدة في البحث عن زيادة الإشباعات، فانه
يتحول الى الخيال الاجتماعي والايديولوجي، ويعني به محاولة الفرد
العيش في مجموعة من التصورات والصور المتخيلة الغير واقعية ليحقق
مقدارا من الرضا النفسي الذي يشكل له قناعة مزيفة بانه يعيش في عالم
لامتناهي، وعندما يتعرض الافراد لعدد من الصدمات الاقتصادية والمادية
فان عملية التخيل تتحطم، وتتكسر الصور المزيفة التي كان يوفرها الفرد
والمجتمع لنفسه لكي يقر حيث هو في عالمه المحلي، وبالتالي تبدا
المخيلة بالعمل على صناعة التصورات الواقعية فيندفع الفرد للتمرد على
الواقع ورفضه وتدميره وحرقه أحيانا بالنار المشتعلة، بحثا عن موطن
جديد ومحل اخر مفعم بالمساحات والحرية والعلاقات الواسعة، وكذلك
الوفرة المادية والمعنوية التي لا يجدها في محل إقامته. ومن هنا تبدأ
ظاهرة التظاهر والاحتجاجات والرفض الذي تشهده مجتمعاتنا، وآخرها ما
يحدث في شمالنا الحبيب، حيث حاولت الاحزاب والمكونات السياسية
(قضمه)وفصله عن امتداداته الجغرافية، وعزله اجتماعيا بشكل(قسري)
بدوافع ومبررات لم تجد ثباتا وقبولا دائما من أبناء المجتمع. هذه
المبررات غير منطقية ابدلت (البلد) الواسع ب(إقليم) جغرافي ضيق، وبيئة
متنوعة مفتوحة الى بيئة جغرافية أحادية المظهر (جبلية في أغلبها)،
وأبدلت التعدد القومي للعراق بقومية واحدة وأغلقت الأبواب بوجه
الآخرين، فضعف التواصل والتفاعل البشري بين أبناء الجغرافيا الواحدة
التي شكلها مصطلح (العراق) في الوعي الجمعي ، ولم تدري هذه التيارات
السياسية انها تبني (سجنا قوميا) ضيقا لا يتسع لخيال ابناءه ولا
طموحاتهم، فاندفع هؤلاء الى الهجرة الى بلاد الله الواسعة عبر محيطات
وبحار العالم المجاورة هربا من افق ضيق فكريا وقوميا وجغرافيا الى
خيال فكري وجغرافي وثقافي أوسع. ولذا فان ضرورة فهم الاحتجاجات
والتظاهرات التي يشهدها العراق عموما والاقليم خاصة وفق هذا السياق
المنطقي – سياق الخيال الأيديولوجي والجغرافي- الذي كان من أسبابه
ثورة الاتصالات والمعلومات (الانفوميديا) التي جعلت من المكان
افتراضيا أكثر منه ماديا، وخلقت خيالا لا يمكن السيطرة عليه وتسرب هذا
الخيال الى الحاجات البشرية التي اصبحت تتميز هي الأخرى بالمنطق
الافتراضي اللامحدود، و ضرورة الاستجابة لها بفتح افاق الجغرافيا
والسياسة والاجتماع طبقا لمنهج التواصل البشري، ومعطيات الخيال البشري
الجغرافي والأيديولوجي الذي لا يمكن الهيمنة عليه ولا قمعه بأي شكل من
الأشكال .